الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال البغوي: يروى هذا عن ابن عباس، كما جاء في الصحيح: «أن البقرة وآل عِمْرَان يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غَيابتان، أو فِرقان من طير صَوَاف».ومن ذلك في الصحيح: قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون، «فيقول: من أنت؟ فيقول أنا القرآن الذي أسهرت ليلك، وأظمأت نهارك»، وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر: «فيأتي المؤمن شاب حسن اللون، طيب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح». وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.فالأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية، تبرز على هذا القول في النشأة الآخرة بصور جوهرية، مناسبة لها في الحسن والقبح.فالذنوب والمعاصي تتجسم هناك، وتتصور بصورة النار، وعلى ذلك حمل قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}. الآية.وكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حق من يشرب من إناء الذهب والفضة: «إنما يجرجر في بطنه نار جهنم»، ولا بعد في ذلك، ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن.وقيل: صحائف الأعمال هي التي توزن، ويؤيده حديث البطاقة، فقد أخرج أحمد والترمذي وصححه، وابن ماجه والحاكم والبيهقي وابن مردويه عن عبد الله بن عُمَر وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلًا، كل سجل منها مد البصر، فيقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا، يا رب! فيقول: أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل، فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة».وقيل: يوزن صاحب العمل، كما في الحديث: «يؤتى يوما القيامة بالرجل السمين، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، ثم قرأ: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}».وفي مناقب عبد الله بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتعجبون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده! لهما في الميزان أثقل من أحد».قال الحافظ ابن كثير: وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار، بأن يكون ذلك كله صحيحًا، فتارة توزن الأعمال، وتارة يوزن محلها، وتارة يوزن فاعلها. والله أعلم- انتهى.قال أبو السعود: وقيل: الوزن عبارة عن القضاء السوي، والحكم العادل، وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك، واختاره كثير من المتأخرين، بناء على أن استعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريقة الكناية، قالوا: إن الميزان إنما يراد به التوصل إلى معرفة مقادير الشيء، ومقادير أعمال العباد لا يمكن إظهارها بذلك، لأنها أعراض قد فنيت، وعلى تقدير بقائها، لا تقبل الوزن. انتهى. وأصله للرازي.قال في العناية: فمنهم من أول الوزن بأنه بمعنى القضاء والحكم العدل، أو مقابلتها بجزائها، من قولهم: وازنه، إذا عادله، وهو إما كناية أو استعارة، بتشبيه ذلك بالوزن المنتصف بالخفة والثقل، بمعنى الكثرة والقلة، والمشهور من مذهب أهل السنة أنه حقيقة بمعناه المعروف. انتهى.فإن جمهور الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل.قال في فتح البيان: وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فلم يأتوا في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه، بل غاية ما تشبثوا به مجرد الإستبعادات العقلية، وليس في ذلك حجة لأحد، فهذا إذا لم تقبله عقولهم، فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم، من الصحابة والتابعين وتابعيهم، حتى جاءت البدع كالليل المظلم، وقال كلٌ ما شاء، وتركوا الشرع خلف ظهورهم، وليتهم جاءوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها، ويتحد قبولهم لها، بل كل فريق يدعي على العقل ما يطابق هواه، ويوافق ما يذهب إليه هو ومن تابعه، فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم، يعرف هذا كل منصف، ومن أنكره فليصفِّ فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب، فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه.وقد ورد ذكر الوزن والميزان في مواضع من القرآن كقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} وقوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} وقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}.والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًّا مذكورة في كتب السنة المطهرة، وما في الكتاب والسنة يغني عن غيرهما، فلا يلتفت إلى تأويل أحد أو تحريفه مع قوله تعالى وقول رسوله الصادق المصدوق، والصباح يغني عن المصباح. انتهى.وخلاصته، أن الأصل في الإطلاق الحقيقة، ولا يعدل عنها إلى المجاز إلا إذا تعذرت، ولا تعذر هاهنا.الثالث: إن قلت: أليس الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد؟ فما الحكمة في وزنها؟ قلت: فيه حكم:منها: إظهار العدل، وإن الله عز وجل لا يظلم عباده.ومنها: امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى.ومنها: تعريف العباد ما لهم من خير وشر، وحسنة وسيئة.ومنها: إظهار علامة السعادة والشقاوة.ونظيره، أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ، ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم، من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى، كذا في اللباب.وقال أبو السعود: إن قيل: إن المكلف يوم القيامة إما مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور، فيكفيه حكمه تعالى بكيفيات الأعمال وكمياتها، وإما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض لخصوصيات راجعة إلى ذوات تلك الأعمال، بل يسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه، فما الفائدة في الوزن؟أجيب بأنه ينكشف الحال يومئذ، وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هي عليه، وبأوصافها وأحوالها في أنفسها من الحسن والقبح، وغير ذلك، وتنخلع عن الصور المستعارة التي بها ظهرت في الدنيا، فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة في أنها هي التي كانت في الدنيا بعينها، وأن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقية المستتبعة لصفاته، ولا يخطر بباله خلاف ذلك- انتهى.وقد سبقه إلى نحوه الرازي. اهـ.
.قال الشعراوي: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)}والسورة السابقة جاء فيها بالحالتين، وفي هذه السورة أيضًا جاء بالحالتين، ومن العجيب أن هذا الكلام عن الثقل والخفة وعدم وجود الحالة الثالثة وهي حالة تساوي الكفتين يأتي في أول سورة الأعراف، ولكنه- سبحانه يقول بعد ذلك في سورة الأعراف: {وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًا بِسِيمَاهُمْ}.وهؤلاء هم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم، وقد جعل لهم ربنا مكانًا يشبه عرف الفرس، وعرف الفرس يعتبر أعلى شيء فيه، فحينا يأتي شعر الفرس يمينًا، وحينا يأتي شعر الفرس يسارًا، وليس هناك جهة أولى بالشعر من الأخرى. وقد أعد الحق لأصحاب الأعراف مكانًا يسمعون فيه أصحاب النار وهم ينادون أصحاب الجنة، وأصحاب الجنة وهم ينادون أصحاب النار، وأصحاب الأعراف يجلسون؛ لا هم في الجنة ولا هم في النار، فهم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وبذلك صحت القسمة العقلية في قول الحق سبحانه وتعالى: {وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًا بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف: 46]فلا الحسنات ثقلت ليدخلوا الجنة، ولا السيئات خفت ليدخلوا النار، فميزانهم تساوت فيه الكفتان. وقال بعض العلماء عن الميزان؛ إن هناك ميزانًا بالفعل. وقال البعض إن المراد بالميزان هو العدالة المطلقة التي أقامها العادل الأعلى، والأعجب أن الحق قال: إن هناك موازين، فهل لكل واحد ميزان أو لكل عمل من أعمال التكليفات ميزان: ميزان العقائد، وميزان الأحكام.. إلخ، وهل سيحاسبنا ربنا تباعًا. أو أن هناك موازين متعددة، بدليل أن سيدنا الإِمام عليًّا عندما سألوه: أيحاسب الله خلقه جميعًا في وقت واحد؟ فقال: وأي عجب في هذا؟ أليس هو رازقهم في وقت واحد؟ إذن فالميزان بالنسبة لله مسألة سهلة جدًّا. وهيّنة فسبحانه لا يتأبى عليه شيء. {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} [الأعراف: 9]نعم هم قد خسروا أنفسهم فكل منهم كان يأخذ شهوات ويرتكب سيئات يمتع بها نفسه، ويأتي اليوم الآخر ليجد نفسه قد خسر كل شيء، وكما يقول المثل العام: خسر الجلد والسقط. لماذا؟ تأتي الإِجابة من الحق: {... بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ}. اهـ..قال سيد قطب في الآيات السابقة: {المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)} إلى قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)}{المص}.. ألف. لام. ميم. صاد..هذا المطلع من الحروف المقطعة سبق الكلام عن نظائره في أول سورة البقرة وفي أول سورة آل عمران. وقد اخترنا في تفسيرها الرأي القائل، بأنها حروف مقطعة يشير بها إلى أن هذا القرآن مؤلف من جنس هذه الأحرف العربية التي يستخدمها البشر، ثم يعجزهم أن يؤلفوا منها كلامًا كهذا القرآن، وأن هذا بذاته برهان أن هذا القرآن ليس من صنع البشر، فقد كانت أمامهم الأحرف والكلمات التي صيغ منها، فلم يستطيعوا أن يصوغوا منها قرآنا مثله. فلابد من سر آخر وراء الأحرف والكلمات.. وهو رأي نختاره على وجه الترجيح لا الجزم. والله أعلم بمراده.وعلى ذلك يصح القول بأن {المص} مبتدأ خبره: {كتاب أنزل إليك}.. بمعنى أن هذه الأحرف وما تألف منها هي الكتاب.. كما يصح القول بأن {المص} مجرد إشارة للتنبيه على ذلك المعنى الذي رجحناه. و{كتاب} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو كتاب: أو هذا كتاب..{كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين}..كتاب أنزل إليك للإنذار به والتذكير.. كتاب للصدع بما فيه من الحق ولمواجهة الناس بما لا يحبون؛ ولمجابهة عقائد وتقاليد وارتباطات؛ ولمعارضة نظم وأوضاع ومجتمعات. فالحرج في طريقه كثير، والمشقة في الإنذار به قائمة.. لا يدرك ذلك- كما قلنا في التعريف بالسورة- إلا من يقف بهذا الكتاب هذا الموقف؛ وإلا من يعاني من الصدع به هذه المعاناة؛ وإلا من يستهدف من التغيير الكامل الشامل في قواعد الحياة البشرية وجذورها، وفي مظاهرها وفروعها، ما كان يستهدفه حامل هذا الكتاب أول مرة صلى الله عليه وسلم ليواجه به الجاهلية الطاغية في الجزيرة العربية وفي الأرض كلها..وهذا الموقف ليس مقصورًا على ما كان في الجزيرة العربية يومذاك، وما كان في الأرض من حولها.. إن الإسلام ليس حادثًا تاريخيًا، وقع مرة، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه!.. إن الإسلام مواجهة دائمة لهذه البشرية إلى يوم القيامة.. وهو يواجهها كما واجهها أول مرة، كلما انحرفت هي وارتدت إلى مثل ما كانت فيه أول مرة!.. إن البشرية تنتكس بين فترة وأخرى وترجع إلى جاهليتها- وهذه هي الرجعية البائسة المرذولة- وعندئذ يتقدم الإسلام مرة أخرى ليؤدي دوره في انتشالها من هذه الرجعية مرة أخرى كذلك؛ والأخذ بيدها في طريق التقدم والحضارة؛ ويتعرض حامل دعوته والمنذر بكتابه للحرج الذي تعرض له الداعية الأولى صلى الله عليه وسلم وهو يواجه البشرية بغير ما استكانت إليه من الارتكاس في وحل الجاهلية؛ والغيبوبة في ظلامها الطاغي! ظلام التصورات.
|